فصل: قال الإمام تقى الدين السبكى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



يذكرنا بما عرفناه من قبل من أن الله خلق آدم من الطين ومن الصلصال ثم نفخ فيه ربّنا الروحَ، أما حواء فقد ذكرها في هذه المسألة، وأوضح: أنا جعلت منها زوجها، و{منها} أي أنها قطعة منه، وقيل: إنها خلقت من ضلع أعوج، ومن يرجع هذا الرأي يقول لك: لأن الله يريد أن يجعل السكن ارتباطًا عضويا، فالمرأة بعض من الرجل، ونعرف أن الواحد منا يحب ابنه لأنه بعض منه. وعلى ذلك فهذا القول جاء لتقديم الألفة. وهناك من يقول: إن حواء خلقت مثل آدم فلماذا جاء ذكر آدم ولم يأت بذكر حواء؟
ونقول: إن آدم أعطى الصورة في خلق الإنسان من طين، لأن آدم هو الرسول وهو المسجود له. ونعلم أن المرأة دائما مبنية على الستر. ومثال ذلك نجد الفلاح في مصر لا يقول: زوجتي، بل يقول: الجماعة أو الأولاد أو يقول: أهلي ولا يذكر اسم الزوجة أبدًا.
والحق يقول هنا: {وَجَعَلَ مِنْهَا}، فإن كانت مخلوقة من الضلع ف مِنْ تبعيضية، وإن كانت مخلوقة مثل آدم تكون مِنْ بيانية، أي من جنسها، مثلها مثلما يقول ربنا: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولًا مِّنْهُمْ...} [الجمعة: 2].
أي الرسول من جنسنا البشري ليكون إلف المبلغ عن الله، والمبلغ عن الله واحدا منا ونكون مستأنسين به، ولذلك قلنا: إن اختيار الله للرسول صلى الله عليه وسلم من البشر فيه رد على من أرادوا أن يكون الرسول من جنس آخر غير البشر، فقال الحق على ألسنتهم: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94].
ويأتي الرد عليهم: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء: 95].
ثم لو كان الرسول من جنس الملائكة فكيف كانوا يرونه على حقيقته؟ كان لابد أن يخلقه الله على هيئة الإنسان.
ويتابع سبحانه: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا}.
و{تَغَشَّاهَا} تعبير مهذب عن عملية الجماع في الوظيفة الجنسية بين الزوج والزوجة، والغشاء هو الغطاء، وجعل الله الجماع من أجل التناسل ليبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء.
والمعنى هنا أنها حملت الجنين لفترة وهي لا تدري أنها حامل، لأن نموّ الجنين بطىء بطىء لا تشعر الأم به. {فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} [الأعراف: 189].
ومرت به، مقصود بها أنها تتحرك حركة حياتها قيامًا وقعودًا إلى أن تثقل وتشعر بالحمل في شهوره الأخيرة.
وهنا عرف الزوج أن هناك حملا ورفع الاثنان أيديهما بالدعاء لله عز وجل أن يكون الولد صالحًا بالتكوين البدني وصالحًا للقيام بقيم المنهج. {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف: 189].
أي أن الذكورة قد انفصلت عن الأنوثة، وصار الذكر يسكن عند الأنثى.
وهكذا كان الأمر الخاص بآدم، ثم جاء الكلام للذرية، وخصوصًا أن حواء كانت تحمل بذكر وأنثى، وآدم وحواء وأولادهما هم أصل التواجد البشري وأصل التوالد.
والقرآن قد يتكلم في موضوعات تبدو متباعدة. لكنها تضم قيمًا ذات نسق فريد، فنجد الحق يتكلم في أمر ثم يتكلم في آخر، مثل قوله: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ...} [يونس: 22].
ولم يأت بسيرة البر هنا، بل تكلم بالبر والبحر ثم انتقل إلى الحديث عن مجيء الموت، وأيضًا انظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى: {وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا...} [الأحقاف: 15].
هنا يوصي الحق الإنسان بوالديه، بالأب وبالأم، ثم يتابع: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا...} [الأحقاف: 15].
ولم تأت سيرة الرجل بل كل الحيثيات للأم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {هُوَ الذي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}.
أخرج النَّسَمة من نَفْسٍ واحدة وأخلاقهم مختلفة، وهممهم متباينة، كما أن الشخص من نطفة واحدة وأعضاؤه وأجزاءه مختلفة. فَمَنْ قَدِرَ على تنويع النطفة المتشاكلة أجزاؤها فهو القادر على تنويع أخلاق الخَلْق الذين أخرجه من نَفْس واحدة.
قوله جلّ ذكره: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
ردَّ المِثْل إلى المِثْل، وربط الشَّكلَ بالشكل، ليَعْلَمَ العالمون أن سكون الخلْق مع الحقِّ لا إلى الحق، وكذلك أنسل الخلْق من الخلق لا من الحق، فالحقُّ تعالى قدوس؛ منه كل حظ للخلق خلْقًا، منزه عن رجوع شيءٍ إلى حقيقته حقًا. اهـ.

.قال الإمام تقى الدين السبكى:

قَوْله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا نَصُّهُ: الْفَرْقُ بَيْنَ جَعَلَ وخَلَقَ أَنَّ جَعَلَ تَتَعَدَّى لِمَفْعُولَيْنِ إذَا كَانَتْ بِمَعْنَى صَيَّرَ وَتَتَعَدَّى لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ إذَا كَانَتْ بِمَعْنَى خَلَقَ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنَّ جَعَلَ فِيهَا مَعْنَى التَّضْمِينِ وَفِي نُسْخَةٍ التَّصْيِيرِ تَقُولُ جَعَلَ كَذَا مِنْ كَذَا.
قَالَ تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} قُلْت هَذَا مَعْنًى حَسَنٌ، وَأَزِيدُ فِي تَقْرِيرِهِ أَنَّ جَعَلَ يَنْفَكُّ عَنْهَا مَعْنَى التَّصْيِيرِ.
وَلَكِنَّ النِّسْبَةَ مُخْتَلِفَةٌ، فَإِذَا قُلْت جَعَلْت الطِّينَ خَزَفًا فَمَعْنَاهُ صَيَّرْت الطِّينَ خَزَفًا فَأَرَدْت بَيَانَ حَالِ الْمَنْقُولِ عَنْهُ إلَى الْمَنْقُولِ إلَيْهِ، وَإِذَا أَرَدْت إفَادَةَ الْحَالِ الْمَنْقُولِ إلَيْهِ تَقُولُ جَعَلْت الْخَزَفَ مِنْ الطِّينِ أَيْ صَيَّرْته مِنْهُ.
فَالْأَوَّلُ يَتَعَدَّى إلَى الْمَفْعُولَيْنِ.
وَالثَّانِي إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، وَكِلَاهُمَا لَمْ يُفَارِقْ مَعْنَى التَّصْيِيرِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَا قُلْته إنْ اخْتَصَرْت، تَقُولُ اخْتَصَرَ النَّوَوِيُّ الْمُحَرَّرَ فِي الْمِنْهَاجِ، وَتَقُولُ اخْتَصَرَ الْمِنْهَاجَ مِنْ الْمُحَرَّرِ.
فَهَذِهِ فَائِدَةٌ حَسَنَةٌ قَصُرَ كَلَامُ النُّحَاةِ عَنْهَا.
وَلَمْ يُفْصِحْ بِهَا الزَّمَخْشَرِيُّ.
وَإِنْ كَانَ نَبَّهَ عَلَى أَصْلِ الْمَعْنَى، وَيَجْتَمِعُ مَعَنَا ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ الْجَعْلُ وَقَدْ عُرِفَ مَعْنَاهُ والْخَلْقُ وَهُوَ أَعَمُّ لِأَنَّهُ يَصْدُقُ مَعَ ذَلِكَ لِقوله: {إنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} وَبِدُونِهِ كَقوله: {أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ} والْإِبْدَاعُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَلْقِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ أَنَّ الْمَخْلُوقَ لَهُ حَظٌّ مِنْ الْمِسَاحَةِ لِمَا فِي الْخَلْقِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى التَّقْدِيرِ، وَالْإِبْدَاعُ يَتَعَلَّقُ بِمَا لَا حَظَّ لَهُ فِي الْمِسَاحَةِ، وَهِيَ الْمَعَانِي الْمُجَرَّدَةُ وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الْمُجَرَّدَاتِ الْمُمْكِنَاتِ وَهُمْ الْحُكَمَاءُ انْتَهَى. اهـ.

.قال ابن القيم:

قوله تعالى: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها}.
فجعل علة السكون أنها منه ولو كان علة الحب حسن الصورة الجسدية لوجب أن لا يستحسن الأنقص من الصور ونحن نجد كثيرا ممن يؤثر الأدنى ويعلم فلضل غيره ولا يجد محيدا لقلبه عنه ولو كان للموافقة في الأخلاق لما أحب المرء من لا يساعده ولا يوافقه فعلمنا أنه شيء في ذات النفس وربما كانت المحبة لسبب من الأسباب وتلك تفنى بفناء سببها.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {حَمْلًا}.
المشهورُ أنَّ الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة.
وحكى أبُو عُبيدٍ في حمل المرأةِ: حَمْل وحِمْل.
وحكى يعقبوُ في حمل النَّخْلةِ: الكسر، والحمل في الية يجوزُ أن يُرادَ به المصدرُ فينتصب انتصابهُ، وأن يُرادَ به نفسُ الجنين، وهو الظَّاهِرُ، فينتصب انتصابَ المفعُولِ به، كقولك: حَمَلْتُ زيدًا.
قوله: {فَمَرَّتْ} الجمهور على تشديد الراء، أي: استمرت به، أي: قامت وقعدت.
وقيل: هو على القلب أي: فمَرَّ بها أي: استمرَّ ودام.
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ وأبو العالية ويحيى بن يعمر، وأيوب: {فَمَرَتْ} خفيفه الرَّاءِ، وفيها تخريجان:
أحدهما: أنَّ أصلها التشديد، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مُكرر فتركوه، وهذه كقراءة: {وَقَرْنَ} [الأحزاب: 33] بفتح القاف إذَا جعلناهُ من القرارِ.
والثاني: أنه من المرية وهو الشَّكُ، أي: فشكَّت بسببه أهو حَمْلٌ أم مرض؟
وقرأ عبدُ الله بن عمرو بن العاص، والجحدريُّ: {فَمَارَتْ} بألف وتخفيف الرَّاءِ، وفيها أيضًا وجهان، أحدهما: أنَّها من: مَارَ، يمُورُ إذا جاء وذهب، ومَارتِ الرِّيحُ، أي: جاءت وذهَبَتْ وتصرَّفَتْ في كُلِّ وجهٍ، ووزنه حينئذٍ فَعَلَتْ والأصلُ مَوَرَتْ ثم قلبت الواو ألفًا فهو كـ: طَافَتْ، تَطُوفُ.
والثاني: أنَّها من المريةِ أيضًا قاله الزمخشريُّ، وعلى هذا فوزنه فَاعلَتْ.
والأصْلُ مَارَيتْ كضَارَبَتْ فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتح ما قبله فقُلِبَ ألفًا، ثمَّ حُذفتْ لالتقاء الساكنين، فهو كـ: بَارَتْ، ورَامَتْ.
وقرأ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وابنُ عبَّاسٍ أيضًا والضحَّاكُ: {فاسْتَمَرَّتْ بِهِ} وهي واضحة.
وقرأ أبيّ {فَاسْتمَارَتْ} وفيها الوجهان المتقدمان في فَمَارَتْ أي: أنَّهُ يجوز أن يكون من المِرْيَة، والأصلُ: اسْتَمْريَتْ وأن يكون من المَوْرِ، والأصلُ: اسْتَمْورَتْ.
قوله: {فَلمَّا أثقَلَتْ} أي: صَارتْ ذات ثقل ودنت ولادتها كقولِهِمْ ألبَنَ الرَّجُلُ، وأتْمَرَ أي: صار ذَا لبَنٍ وتَمْرٍ.
وقيل: دخلت في الثقل؛ كقولهم: أصبح وأمسى، أي: دخل في الصَّباح والمساءِ، وقرئ أثْقِلَتْ مبنيًّا للمفعُولِ.
قوله: {دَعَوا اللَّهَ} متعلَّقُ الدُّعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسميَّةِ عليه، أي: دعواهُ في أن يُؤتيهُمَا ولدًا صالحًا.
قوله: {لَئِنْ آتيْتَنَا} هذا القسمُ وجوابه فيه وجهان:
أظهرهما: أنَّهُ مُفَسِّرٌ لجملة الدُّعاءِ كأنه قيل:
فما كان دعاؤهما؟
فقيل: كان دعاؤهما كيت وكيت؛ ولذلك قلنا إنَّ هذه الجملة دالةٌ على متعلق الدُّعاءِ.
والثاني: أنَّهُ معمولٌ لقولٍ مضمرٍ، تقديره: فقالا لئن آتيتنا، ولنكُوننَّ جوابُ القسم، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ على ما تقرَّر.
وصَالِحًا فيه قولان أظهرهما: أنه مفعولٌ ثان، أي: ولدًا صالحًا.
والثاني: قال مكي إنه نعتُ مصدر محذوف، أي: إيتاءً صالحًا، وهذا لا حاجة إليه، لأنه لابد من تقدير المؤتى لهما. اهـ. باختصار.

.فوائد بلاغية:

.قال الإمام ابن قتيبة:

.باب الكناية والتّعريض:

الكناية أنواع، ولها مواضع:
فمنها أن تكنى عن اسم الرجل بالأبوّة، لتزيد في الدّلالة عليه إذا أنت راسلته أو كتبت إليه، إذ كانت الأسماء قد تتّفق.
أو لتعظّمه في المخاطبة بالكنية، لأنها تدلّ على الحنكة وتخبر عن الاكتهال.
وقد ذهب هؤلاء إلى أنّ الكنية كذب ما لم يكن الولد مسمّى بالاسم الذي كني به عن الأب، وتقع للرجل بعد الولادة.
وقالوا: إن كانت الكناية للتعظيم فما باله كنى أبا لهب وهو عدوّه، وسمّي محمدا، صلّى اللّه عليه وسلم، وهو وليّه ونبيّه.